فصل: وَأما آثاره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الثَّالِث بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لحكيم بن حزَام: لَا يمس الْمُصحف إِلَّا طَاهِر».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، من حَدِيث سُوَيْد أبي حَاتِم، ثَنَا مطر الْوراق، عَن حسان بن بِلَال، عَن حَكِيم بن حزَام أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت عَلَى طهر».
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَأَنا ابْن مخلد، سَمِعت جعفرًا يَقُول: سمع حسان بن بِلَال من عَائِشَة وعمار، قيل لَهُ: سمع مطر من حسان؟ فَقَالَ: نعم.
قلت: وسُويد هَذَا هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْعَطَّار صَاحب الطَّعَام، ضعفه النَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، حَدِيثه حَدِيث أهل الصدْق. وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَقَالَ مرّة: لين.
وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث رُوَاته كلهم ثِقَات، وأسرف فِيهِ ابْن حبَان فَقَالَ: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، وَهُوَ صَاحب حَدِيث البرغوث وَرَوَاهُ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته عَن الْحَاكِم، عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْفَقِيه، عَن جَعْفَر بن أبي عُثْمَان، عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمقري، عَن أَبِيه، عَن سُوَيْد أبي حَاتِم، وَقَالَ فِيهِ: صَاحب الطَّعَام كَمَا قدمنَا التَّصْرِيح بِهِ، وَذكره بلفظين؛ أَحدهمَا: كَلَفْظِ الدَّارَقُطْنِيّ وَالثَّانِي: «لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر» وَرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ هَذِه أَعنِي رِوَايَته عَن الْحَاكِم، رَأَيْتهَا فِي مُسْتَدْركه فِي تَرْجَمَة حَكِيم بن حزَام، عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْفَقِيه بِهِ إِلَى حَكِيم بن حزَام «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما بَعثه واليًا إِلَى الْيمن فَقَالَ: لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر».
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ.
وَرَوَاهُ أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه، عَن بكر بن مقبل الْبَصْرِيّ، عَن إِسْمَاعِيل بِهِ سَوَاء وَلم يقل واليًا وَإِنَّمَا قَالَ: «لما بَعَثَنِي رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن قَالَ: لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر» وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: هَذَا الحَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه مُجَوَّدًا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
قلت: وَإِذا تقرر لَك حَال هَذَا الحَدِيث، وَمن أخرجه من الْأَئِمَّة تعجبت من قَول النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي شَرحه للمهذب وَقد أورد الشَّيْخ هَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه-: كَذَا رَوَاهُ المُصَنّف وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد عَن حَكِيم بن حزَام، وَالْمَعْرُوف فِي كتب الحَدِيث وَالْفِقْه أَنه عَن عَمْرو بن حزم عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْكتاب الَّذِي كتبه لما وَجهه إِلَى الْيمن.
قَالَ: وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَجزم أَيْضا فِي خلاصته بضعفه وبضعف حَدِيث حَكِيم أَيْضا، وَحكمه عَلَيْهِ بالضعف قَاض بمعرفته، وَهُوَ خلاف مَا ذكره فِي شَرحه وَقد علمت أَنه حَدِيث مَعْرُوف فِي كتب الْمُحدثين، وَأَن الْحَاكِم صحّح إِسْنَاده، وَأَن الْحَازِمِي حَسَّنَه، وَأَن الدَّارَقُطْنِيّ وثق رُوَاته؛ فَلَا يَنْبَغِي الحكم عَلَيْهِ بالضعف أَيْضا.
ثمَّ جزمه بِضعْف حَدِيث عَمْرو بن حزم لَيْسَ بجيد أَيْضا فقد أخرجه الْحَاكِم وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي الدِّيات- إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقدره- وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْحَافِظ: لَا أعلم فِي جَمِيع الْكتب المنقولة أصح من كتاب عَمْرو بن حزم، وَصَححهُ أَيْضا أَبُو عمر بن عبد الْبر، وَرَوَاهُ مَالك فِي موطئِهِ عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم أَن فِي الْكتاب الَّذِي كتبه رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَمْرو بن حزم: «أَلا تمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِرا». وَهَذَا مُرْسل.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي غرائب مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ فِي الْكتاب الَّذِي كتبه رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لجدي عَمْرو بن حزم: أَن لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ فِيهِ عَن جده؛ وَهُوَ الصَّوَاب عَن مَالك، ثمَّ سَاقه عَن مَالك بِزِيَادَة: عَن جده، وَقَالَ: تفرد بِهِ أَبُو ثَوْر عَن مُبشر. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته بِزِيَادَة عَن جده أَيْضا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى أَنه قَالَ: «لَا تحمل الْمُصحف وَلَا تمسه إِلَّا طَاهِرا».
قلت: هَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة؛ لَا أعلم من رَوَاهَا عَلَى هَذَا الْوَجْه بجملته؛ ولابلفظ الْحمل مَعَ أَنه ورد فِي الْبَاب أَحَادِيث غير حَدِيث حَكِيم بن حزَام، وَحَدِيث عَمْرو بن حزم السالفين:
أَحدهمَا:
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه عَن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، ثَنَا سعيد بن مُحَمَّد بن ثَوَاب، نَا أَبُو عَاصِم- هُوَ النَّبِيل- أَنا ابْن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى قَالَ: سَمِعت سالما يحدث عَن أَبِيه... فَذكره.
قَالَ الجوزقاني فِي كِتَابه: هَذَا حَدِيث حسن مَشْهُور. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي أَصْغَر معاجمه: لم يروه عَن سُلَيْمَان إِلَّا ابْن جريج؛ وَلَا عَنهُ إِلَّا أَبُو عَاصِم، تفرد بِهِ سعيد.
قلت: وَحَدِيثه صَححهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي مَوضِع- كَمَا ستعلمه- وَقَالَ ابْن عبد الْحق فِي كِتَابه الَّذِي وَضعه فِي الرَّد عَلَى أبي مُحَمَّد بن حزم- عقب قَوْله: إِن الْآثَار الَّتِي احْتج بهَا مس لم يجز للْجنب من الْمُصحف، لَا يَصح مِنْهَا شَيْء؛ لِأَنَّهَا إِمَّا مُرْسلَة وَإِمَّا صحيفَة لَا تسند-: قد صَحَّ عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الحَدِيث، ثمَّ سَاقه، وَقَالَ إثره: هَذَا حَدِيث صَحِيح، رِجَاله ثِقَات: الْمحَامِلِي ثِقَة إِمَام، وَسَعِيد بن مُحَمَّد بن ثَوَاب قد خرج الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ حَدِيث عَائِشَة «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقصر فِي السّفر وَيتم وَيفْطر ويصوم» ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. فَإِن اعْترض معترض بِمَا قيل فِي سُلَيْمَان بن مُوسَى قيل لَهُ: ابْن حزم يصحح حَدِيثه ويحتج بِهِ، وَقد احْتج بحَديثه فِي كتاب النِّكَاح، حَدِيث عَائِشَة: «أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا وشاهدي عدل...».
ثمَّ قَالَ ابْن حزم فِيهِ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب غير هَذَا السَّنَد، وَفِي هَذَا كِفَايَة لصِحَّته، وَبَاقِي السَّنَد أشهر من أَن يحْتَاج إِلَى تَبْيِين أَمرهم. قَالَ: فَبَطل قَول ابْن حزم أَنه لَا يَصح فِي ذَلِك حَدِيث، وألان الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِيهِ؛ فَقَالَ بعد أَن رَوَاهُ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
الحديث الثَّانِي:
عَن ثَوْبَان رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر، وَالْعمْرَة الْحَج الْأَصْغَر، وَعمرَة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَحجَّة أفضل من عمْرَة» رَوَاهُ عَلّي بن عبد الْعَزِيز فِي «منتخبه» كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ عبد الْحق. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاده فِي غَايَة الضعْف، ثمَّ بَين ذَلِك.
الحديث الثَّالِث:
عَن الْقَاسِم بن أبي بزَّة، عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ قَالَ: «كَانَ فِيمَا عهد إليّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تمسّ الْمُصحف وَأَنت غير طَاهِر» رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي دَاوُد فِي كتاب الْمَصَاحِف وَهُوَ مُنْقَطع؛ لِأَن الْقَاسِم لم يدْرك عُثْمَان. وَضَعِيف؛ لِأَن فِي إِسْنَاده: إِسْمَاعِيل بن مُسلم المكِّي، وَقد ضَعَّفُوهُ وَتَركه جمَاعَة.
وَفِيه أثر رَابِع عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، قَالَ: كُنَّا مَعَ سلمَان، فَانْطَلق إِلَى حَاجته فتوارى عَنَّا، ثمَّ خرج إِلَيْنَا وَلَيْسَ بَيْننَا وَبَينه مَاء قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا عبد الله، لَو تَوَضَّأت فسألناك عَن أَشْيَاء من الْقُرْآن. قَالَ: فَقَالَ: سلوا فَإِنِّي لست أمسه، إِنَّمَا يمسهُ الْمُطهرُونَ، ثمَّ تَلا {إِنَّه لقرآن كريم فِي كتاب مَكْنُون لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ هُنَا، وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه فِي تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
فَهَذِهِ أَحَادِيث وأثر كلهَا بِلَفْظ الْمس، مَعَ أَن تَحْرِيم الْحمل مستنبط من بَاب أولَى.

.الحديث الرَّابِع بعد الْعشْرين:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب كتابا إِلَى هِرقل، وَكَانَ فِيهِ: {تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} الْآيَة».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا: من حَدِيث أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كتب إِلَيْهِ: «بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من مُحَمَّد عبد الله وَرَسُوله إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم، سَلام عَلَى من اتبع الْهدى، أما بعد؛ فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام، أسلم تسلم، وَأسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ؛ فَإِن توليت فَإِن عَلَيْك إِثْم الأريسيين و{يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن لَا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ}».
فساقا الحَدِيث بِطُولِهِ وَلَيْسَ لأبي سُفْيَان فِي الصَّحِيحَيْنِ غَيره، وَهُوَ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَنهُ.
فَائِدَة: هِرَقْل، بِكَسْر الْهَاء، وَفتح الرَّاء، وَإِسْكَان الْقَاف هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال: بِكَسْر الْهَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَكسر الْقَاف، حَكَاهُ الْجَوْهَرِي فِي صحاحه وَلم يذكر الْقَزاز غَيره. وَهُوَ أول من ضرب الدَّنَانِير، وَأول من أحدث الْبيعَة قَالَه الجواليقي، وَهُوَ عجمي مُعرب، وَهُوَ اسْم علم لَهُ، ولقبه: قَيْصر، وَكَذَلِكَ كل من ملك الرّوم يُقَال لَهُ: قَيْصر.
فَائِدَة ثَانِيَة: الدِّعاية بِكَسْر الدَّال، أَي: يَدعُونَهُ، وَهِي كلمة التَّوْحِيد، وَلَفظ مُسلم: «بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام» أَي: بِالْكَلِمَةِ الداعية إِلَى الْإِسْلَام.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَيجوز أَن يكون دَاعِيَة بِمَعْنى دَعْوَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة} أَي: كشف.
وَقَوله: «وَعَلَيْك إِثْم الأريسيين» كَذَا هُوَ فِي صَحِيح مُسلم؛ بِهَمْزَة مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء مُهْملَة مَكْسُورَة ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ سين مُهْملَة ثمَّ مثناة تَحت ثمَّ أُخْرَى مثلهَا- وَفِي رِوَايَة حذف هَذِه- ثمَّ نون. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه: غَرِيب الحَدِيث وَمن خطه نقلت: هَكَذَا يرويهِ أهل اللُّغَة، وَوَقع فِيهِ وفِي صَحِيح البُخَارِيّ اليريسيين بياء فِي أَوله، وبيائين بعد السِّين وَالأَصَح أَنهم الأكارون؛ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي دَلَائِل النُّبُوَّة أَي: الفلاحون والزراعون، وَفِي رِوَايَة البرقاني يَعْنِي: الحراثين، وَمَعْنَاهُ: أَن عَلَيْك إِثْم رعاياك الَّذين يتبعونك وينقادون بانقيادك، وَنبهَ بهؤلاء عَلَى جَمِيع الرعايا؛ لأَنهم الْأَغْلَب، وَلِأَنَّهُم أسْرع انقيادًا؛ فَإِذا أسلم أَسْلمُوا، وَإِذا امْتنع امْتَنعُوا.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.

.وَأما آثاره:

فَذكر فِيهِ أَن أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا ينتظرون الْعشَاء فينامون قعُودا ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ وَهَذَا أثر صَحِيح، رَوَاهُ الإِمَام الشَّافِعِي فِي الْأُم عَن الثِّقَة، عَن حميد عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ينتظرون الصَّلَاة- أَحْسبهُ قَالَ: قعُودا- حَتَّى تخفق رُءُوسهم، ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ».
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته- بعد أَن رَوَاهُ-: قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا الثِّقَة، حَدثنَا حميد الطَّوِيل؛ فَإِنَّهُ يكني بالثقة عَن إِسْمَاعِيل ابْن علية، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم؛ فَقَالَ: أَنا بعض أَصْحَابنَا، عَن الدستوَائي، عَن قَتَادَة، عَن أنس «أَن أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا ينتظرون الْعشَاء حَتَّى تخفق رُءُوسهم، ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ». وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث خَالِد بن الْحَارِث، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ينامون ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ».
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث هِشَام الدستوَائي، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ينتظرون الْعشَاء الْآخِرَة حَتَّى تخفق رُءُوسهم، ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» زَاد فِيهِ شُعْبَة، عَن قَتَادَة قَالَ: «كَانَ عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم...» وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ينامون ثمَّ يقومُونَ وَيصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ». ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن الْمُبَارك، ثَنَا معمر، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «لقد رَأَيْت أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يوقظون للصَّلَاة حَتَّى إِنِّي لأسْمع لأَحَدهم غطيطًا، ثمَّ يقومُونَ فيصلون وَلَا يَتَوَضَّئُونَ». قَالَ ابْن الْمُبَارك: هَذَا عندنَا وهم جُلُوس. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعَلَى هَذَا حمله عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، وَالشَّافِعِيّ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي الإِمام: هَكَذَا أَوله كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ؛ لِأَن اللَّفْظ مُحْتَمل، وَالْحَاجة إِلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي هَذِه الرِّوَايَة أَشد لذكر الغطيط. وَأما رِوَايَة مُسلم الْمُتَقَدّمَة فمحتملة لذَلِك أَيْضا، لَكِن وَردت زِيَادَة تمنع هَذَا التَّأْوِيل، قَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا الحَدِيث بسياقته فِي مُسلم يحْتَمل أَن ينزل عَلَى نوم الْجَالِس، وَعَلَى ذَلِك ينزله أَكثر النَّاس، وَفِيه زِيَادَة تمنع من ذَلِك، رَوَاهَا يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ينتظرون الصَّلَاة فيضعون جنُوبهم، فَمنهمْ من ينَام ثمَّ يقوم إِلَى الصَّلَاة».
قَالَ قَاسم بن أصبغ: نَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي، ثَنَا مُحَمَّد بن بشار، نَا يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، نَا شُعْبَة... فَذكره. قَالَ: وَهَذَا كَمَا ترَى صَحِيح من رِوَايَة الإِمَام عَن شُعْبَة قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَمن اعْتبر حَالَة النّوم فَلهُ أَن يحمل هَذَا عَلَى النّوم الْخَفِيف أَو الْقصير ويعارضه رِوَايَة الغطيط الْمُتَقَدّمَة.
قَالَ: وَرَوَى أَحْمد بن عبيد هَذَا الحَدِيث من جِهَة يَحْيَى بن سعيد، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ينامون ثمَّ يقومُونَ فيصلون وَلَا يَتَوَضَّئُونَ عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم»، وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا ابْن الْقطَّان، وَلَيْسَ فِيهَا «فيضعون جنُوبهم».
قَالَ الشَّيْخ: وَقَرِيب مِمَّا ذكره ابْن الْقطَّان رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس «أَن أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يشبعون جنُوبهم؛ فَمنهمْ من يتَوَضَّأ، وَمِنْهُم من لَا يتَوَضَّأ» وَرَوَى ابْن عدي من حَدِيث أبي هِلَال مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كُنَّا ننام فِي مَسْجِد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ فَلَا نُحدث لذَلِك وضُوءًا». وَمُحَمّد هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَضَعفه أَحْمد، وَأخرج لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: فِي بعض رواياته مَا لَا يُوَافقهُ الثِّقَات عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه.
وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا فِيهِ عِنْد قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم النِّسَاء} أَن اللَّمْس المُرَاد بِهِ الجس بِالْيَدِ كَذَلِك. ورُوِيَ عَن ابْن عمر وَغَيره. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَى مَالك فِي الْمُوَطَّأ وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه، وَهُوَ ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «قبْلَة الرجل امْرَأَته وجسها بِيَدِهِ من الْمُلَامسَة؛ فَمن قبل امْرَأَته أَو جسها بِيَدِهِ فَعَلَيهِ الْوضُوء» وَفِي رِوَايَة ابْن بكير عَن مَالك: «فقد وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء».
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وخلافياته عَن ابْن عمر، عَن عمر أَنه قَالَ: «إِن الْقبْلَة من اللَّمْس فَتَوضئُوا مِنْهَا» وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا عِنْدهم خطأ؛ لِأَن حفاظ أَصْحَاب ابْن شهَاب يجعلونه عَن ابْن عمر لَا عَن عمر، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي سنَنه وخلافياته عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله- يَعْنِي: ابْن مَسْعُود- قَالَ: «الْقبْلَة من اللَّمْس، وفيهَا الْوضُوء، واللمس مَا دون الْجِمَاع» ثمَّ قَالَ: وَفِيه إرْسَال؛ أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه، قَالَ: وَقد رَوَيْنَاهُ بِإِسْنَاد آخر صَحِيح مَوْصُول، ثمَّ أخرجه من طَرِيق طَارق بن شهَاب «أَن عبد الله قَالَ فِي قَوْله: {أَو لامستم النِّسَاء} قولا مَعْنَاهُ مَا دون الْجِمَاع».
وَلما ذكر الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه قَول عمر السالف قَالَ: قد اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى إِخْرَاج أَحَادِيث فِي صَحِيحَيْهِمَا يسْتَدلّ بهَا عَلَى أَن اللَّمْس مَا دون الْجِمَاع، مِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة «فاليد زنَاهَا اللَّمْس» وَحَدِيث ابْن عَبَّاس: «لَعَلَّك لمست» وَحَدِيث ابْن مَسْعُود {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار} وَبَقِي عَلَيْهِمَا أَحَادِيث صَحِيحَة فِي التَّفْسِير وَغَيره، مِنْهَا حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها «مَا كَانَ- أَو قل- يَوْم إِلَّا وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يأتينا فَيقبل ويلمس...» الحَدِيث. وَمِنْهَا حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله «فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم النِّسَاء} قَالَ: هُوَ مَا دون الوقاع؛ وَمِنْه الْوضُوء» وَمِنْهَا عَن عمر، وَقد قدمْنَاهُ، وَمِنْهَا حَدِيث معَاذ بِنَحْوِ حَدِيث ابْن مَسْعُود، وأسندها كلهَا. ثمَّ قَالَ: هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرتها أَن الشَّيْخَيْنِ اتفقَا عَلَيْهَا، غير أَنَّهَا مخرجة فِي الْكِتَابَيْنِ بالتفاريق، وَكلهَا صَحِيحَة دَالَّة عَلَى أَن اللَّمْس الَّذِي يُوجب الْوضُوء دون الْجِمَاع.

.باب الْغسْل:

ذكر فِيهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- خَمْسَة وَعشْرين حَدِيثا:

.الحديث الأول:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغتسلي وَصلي».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا عَن عَائِشَة قَالَت: «جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض وَلَا أطهر؛ أفأدع الصَّلَاة؟ فَقَالَ: لَا؛ إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَ بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي».
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «إِن ذَلِك عرق، وَلَكِن دعِي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا ثمَّ اغْتَسِلِي وَصلي» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فاتركي الصَّلَاة؛ فَإِذا ذهب قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ السراج فِي مُسْنده، والإسماعيلي فِي صَحِيحه: «فلتغتسل ولتصل» وَكَذَا رَوَاهُ ابْن مَنْدَه، وَرَوَاهُ بعض الروَاة عَن ابْن عُيَيْنَة، وَفِي الشَّك فِي الْغسْل.
فَائِدَة: أَبُو حُبَيْش: بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة، ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ شين مُعْجمَة، وَاسم أبي حُبَيْش هَذَا قيس بن الْمطلب، وَوَقع فِي أَكثر نسخ مُسلم: عبد الْمطلب- وَهُوَ غلط- بن أَسد بن عبد الْعُزَّى.
والحَيْضَةُ- بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا فِي قَوْله: «فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة» وَالْفَتْح مُتَعَيّن فِي قَوْله: «وَلَيْسَت بالحيضة» أَي: الْحيض. فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ إِثْبَات الْحيض وَنفي الِاسْتِحَاضَة، وَاخْتَارَ الْخطابِيّ الْكسر، أَي: الْحَالة، بعد أَن نقل عَن أَكثر الْمُحدثين أَو كلهم الْفَتْح.
وفاطمةُ هَذِه قرشية أسدية، وَوَقع فِي مبهمات الْخَطِيب أَنَّهَا أنصارية، وَهل كَانَت مُمَيزَة أَو مُعْتَادَة، الَّذِي فهمه الْبَيْهَقِيّ: الأول، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: «دعِي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا» قد يسْتَدلّ بِهِ عَلَى من يرَى الرَّد إِلَى أَيَّام الْعَادة سَوَاء كَانَت مُمَيزَة أَو غير مُمَيزَة لِأَن ترك الاستفصال فِي قضايا الْأَحْوَال مَعَ قيام الِاحْتِمَال يتنزل منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال؛ فَلَمَّا لم يستفصلها عَلَيْهِ السَّلَام عَن كَونهَا مُمَيزَة أَو لَا، كَانَ ذَلِك دَلِيلا عَلَى أَن الحكم عَام فيهمَا.
وَيحمل عَلَى هَذَا: إقبال الْحَيْضَة عَلَى وجود الدَّم فِي أول أَيَّام الْعَادة وإدبارها عَلَى انْقِضَاء أَيَّام الْعَادة وَفِي قَوْله: «إِذا ذهب قدرهَا» إِشَارَة إِلَى ذَلِك؛ إِذْ الْأَشْبَه أَنه يُرِيد قدر أَيَّامهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَيحْتَمل أَنه كَانَ لَهَا حالتان: حَالَة تَمْيِيز، وَحَالَة لَا تميز، فَأمرهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْعَادة.

.الحديث الثَّانِي:

أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِنَّمَا المَاء من المَاء».
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح ثَابت من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه بِلَفْظ: «إِنَّمَا المَاء من المَاء» وَذكره مطولا أَيْضا، وَأَن سَببه قصَّة عتْبَان فِي إعجاله، وَاقْتصر البُخَارِيّ عَلَيْهَا دون اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه، وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا بِلَفْظ الرَّافِعِيّ وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة: «إِنَّمَا المَاء من الإمناء».
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضي اللهُ عَنهُ بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي مُسْنده وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي سنَنَيْهِمَا بِإِسْنَاد جيد.
ثَالِثهَا: من حَدِيث رَافع بن خديج قَالَ: «ناداني رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا عَلَى بطن امْرَأَتي، فَقُمْت وَلم أنزل، فاغتسلت وَخرجت، فَأخْبرت فَقَالَ: لَا عَلَيْك؛ المَاء من المَاء». قَالَ رَافع: «ثمَّ أمرنَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ذَلِك بِالْغسْلِ» رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَقَالَ الْحَازِمِي: حَدِيث حسن.
وَله طَرِيق رَابِع: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِقصَّة وَلَفظه: «المَاء من المَاء، وَالْغسْل عَلَى من أنزل». رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، وَعَزاهُ إِلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام وَسكت عَنهُ.
وَطَرِيق خَامِس: من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: «المَاء من المَاء» رَوَاهُ ابْن شاهين من حَدِيث أَحْمد بن عَمْرو بن جَابر، ثَنَا عبد الله بن أُسَامَة الْحلَبِي، نَا يَعْقُوب بن كَعْب، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أنس.
طَرِيق سادس: من حَدِيث عتْبَان- أَو ابْن عتْبَان- الْأنْصَارِيّ قَالَ: «قلت: أَي نَبِي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي كنت مَعَ أَهلِي، فَلَمَّا سَمِعت صَوْتك أقلعت فاغتسلت! فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: المَاء من المَاء» رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده كَذَلِك من حَدِيث كثير بن زيد، عَن الْمطلب بن عبد الله عَن عتْبَان بِهِ.
وَحَدِيث رَافع بن خديج لم يَصح وَذكر فِيهِ النَّاسِخ وَكَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام، وَقد أوضح نسخه: ابْن شاهين وَابْن الْجَوْزِيّ والحازمي فِي تواليفهم فِي ذَلِك.

.الحديث الثَّالِث:

قَالَت عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها: «إِذا التقَى الختانان فقد وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الثِّقَة، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه- أَو عَن يَحْيَى بن سعيد- عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة... فَذَكرته بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: كَذَا رَوَاهُ الرّبيع عَن الشَّافِعِي عَلَى الشَّك، وَرَوَاهُ الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي عَن الثِّقَة، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم من غير شكّ، والثقة فِي كَلَام الشَّافِعِي هَذَا قد بَينه فِي حَرْمَلَة فَقَالَ: أَنا الشَّافِعِي، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن... فَذكره بِلَا شكّ؛ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ غَيره عَن الْوَلِيد بن مُسلم والوليد بن يزِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عبد الرَّحْمَن.
قلت: رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد أَيْضا عَن الْوَلِيد بن مُسلم ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا».
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، نَا الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة قَالَت: «إِذا التقَى الختانان فقد وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فاغتسلنا».
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه فِي عشرَة النِّسَاء، عَن عبيد الله بن سعيد نَا الْوَلِيد... فَذكره، لكنه قَالَ: «إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فاغتسلنا». وَرَوَاهُ أَيْضا التِّرْمِذِيّ فِي جامعه من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمثنى، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا» ثمَّ أورد حَدِيثا آخر عَنْهَا.
ثمَّ قَالَ: حَدِيث عَائِشَة حَدِيث حسن صَحِيح. اه.
وَاعْترض عبد الْحق فِي أَحْكَامه عَلَيْهِ بِأَن قَالَ: قد قَالَ هُوَ فِي علله: قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا خطأ؛ إِنَّمَا يرويهِ الْأَوْزَاعِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم مُرْسلا. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: سَأَلت الْقَاسِم بن مُحَمَّد: سَمِعت فِي هَذَا الْبَاب شَيْئا؟ قَالَ: لَا.
وَأجَاب ابْن الْقطَّان عَن هَذَا فَقَالَ فِي كِتَابه الْوَهم والإِيهام: لم يصب فِيمَا اعْترض بِهِ؛ لِأَن اعتلال البُخَارِيّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يروي مُرْسلا لَيْسَ بعلة فِيهِ، وَلَا أَيْضا قَول الْقَاسِم أَنه لم يسمع فِي هَذَا الْبَاب شَيْئا فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ شَيْئا يُنَاقض هَذَا الَّذِي رويت. لابد من حمله عَلَى هَذَا التَّأْوِيل؛ لصِحَّة الحَدِيث الْمَذْكُور كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ.
قلت: هَذَا الْجَواب لَا يَخْلُو من نظر، وَقد صَححهُ مَعَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي صَحِيحه بِلَفْظِهِ.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث ذكره أَيْضا الْغَزالِيّ فِي وسيطه وَلم يظفر بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي مشكله وَإِنَّمَا قَالَ: هُوَ ثَابت فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة، وَأما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور فَغير مَذْكُور فيهمَا. وَتَبعهُ النَّوَوِيّ، فَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى مَوَاضِع مِنْهُ: هَذَا الحَدِيث مَشْهُور مخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ بِمَعْنَاهُ لَا بِلَفْظِهِ.
قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا المُصَنّف لَا دلَالَة فِيهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يحْتَج بغَيْرهَا وَقَالَ فِي «تنقيحه»: هَذَا الحَدِيث أَصله صَحِيح، وَلَكِن فِيهِ تَغْيِير. قلت قد علمت أَنه لَا تَغْيِير فِيهِ، وَأَنه صَحِيح بِلَفْظِهِ، وَللَّه الْحَمد.